الأربعاء، 1 يونيو 2011

التّفليس

التّفليس 
 تعريفه
2 - التّفليس هو : مصدر فلّست الرّجل ، إذا نسبته إلى الإفلاس . -و الإفلاس مصدر أفلس ، وهو لازمٌ ، يقال : أفلس الرّجل إذا صار ذا فلوسٍ بعد أن كان ذا ذهبٍ وفضّةٍ ، أو صار إلى حالٍ ليس له فلوسٌ . والفلس اسم المصدر ، بمعنى الإفلاس . والإفلاس في الاصطلاح : أن يكون الدّين الّذي على الرّجل أكثر من ماله ، وسواءٌ أكان غير ذي مالٍ أصلاً ، أم كان له مالٌ إلاّ أنّه أقلّ من دينه . قال ابن قدامة : وإنّما سمّي من غلب دينه ماله مفلساً وإن كان له مالٌ ، لأنّ ماله مستحقّ الصّرف في جهة دينه ، فكأنّه معدومٌ .
 و التفليس اصطلاحاً : جعل الحاكم المدين مفلساً بمنعه من التّصرّف في ماله . وهذا ما صرّح به الحنفيّة والشّافعيّة عندما عرّفوا التّفليس بالمعنى الأخصّ . والعلاقة بين التّفليس والإفلاس : أنّ الإفلاس أثر التّفليس في الجملة . وجرى المالكيّة على أنّ التّفليس يطلق على ما قبل الحجر بعد قيام الغرماء على المدين ، قالوا : ويقال حينئذٍ : إنّه تفليسٌ بالمعنى الأعمّ ، ويطلق على ما بعد الحجر عليه بحكم الحاكم ، ويكون حينئذٍ تفليساً بالمعنى الأخصّ .
مشروعيته
ذهب الجمهور إلى جواز ذلك مستدلّين بحديث معاذٍ : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حجر عليه ، وباع ماله في دينٍ كان عليه ، وقسمه بين غرمائه ... » وكذلك أثر أسيفعٍ : أنّه كان يشتري الرّواحل ، فيغالي بها ، ثمّ يسرع في السّير فيسبق الحاجّ ، فأفلس ، فرفع أمره إلى عمر بن الخطّاب فقال : ، فمن كان له دينٌ فليأتنا بالغداة  نقسم ماله بين غرمائه ، وإيّاكم والدّين ... )
كيفيّة قسمة مال المفلّس بين غرمائه :
أ - يبدأ من مال المفلّس بإعطاء أجرة من يصنع ما فيه مصلحةٌ للمال ، من منادٍ وسمسارٍ وحافظٍ وحمّالٍ وكيّالٍ ووزّانٍ ونحوهم ، تقدّم على ديون الغرماء . ذكر ذلك صاحب الإقناع من الحنابلة . وذكر الدّردير من المالكيّة تقديم ساقي الزّرع الّذي أفلس ربّه على المرتهن ، وقال : إذ لولاه لما انتفع بالزّرع .
ب - ثمّ بمن له رهنٌ لازمٌ أي مقبوضٌ ، فيختصّ بثمنه إن كان قدر دينه ، لأنّ حقّه متعلّقٌ بعين الرّهن وذمّة الرّاهن . وما زاد من ثمن الرّهن ردّ على المال ، وما نقص ضرب به الغريم مع الغرماء . وأضاف المالكيّة : إنّ الصّانع أحقّ من الغرماء بما في يده إذا أفلس ربّ الشّيء المصنوع بعد تمام العمل حتّى يستوفي أجرته منه ، لأنّه وهو تحت يده كالرّهن ، حائزه أحقّ به في الفلس ، وإلاّ فليس أحقّ به إذا سلّمه لربّه قبل أن يفلّس ، أو أفلس ربّه قبل تمام العمل .
 قالوا : ومن استأجر دابّةً ونحوها كسفينةٍ ، وأفلس ، فربّها أحقّ بالمحمول عليها من أمتعة المكتري ، يأخذه في أجرة دابّته وإن لم يكن ربّها معها ، ما لم يقبض المحمول ربّه - وهو المكتري - قبض تسلّمٍ . وهذا بخلاف مكتري الحانوت ونحوه فلا يختصّ بما فيه . والفرق أنّ بحيازة الظّهر لما فيها من الحمل والنّقل أقوى من حيازة الحانوت والدّار .
 وقال المالكيّة أيضاً : وكذلك المكتري لدابّةٍ ونحوها أحقّ بها حتّى يستوفي من منافعها ما نقده من الكراء ، سواءٌ أكانت معيّنةً أو غير معيّنةٍ ، إلاّ أنّها إن كانت غير معيّنةٍ لم يكن أحقّ بها ما لم يقبضها قبل فلس المؤجّر .
ج - ثمّ من وجد عين ماله أخذها. وكذا من له عينٌ مؤجّرةٌ استأجرها منه المفلّس ، فله أخذها وفسخ الإجارة على الخلاف والتّفصيل المتقدّم .
د - ثمّ تقسم أموال المفلّس المتحصّلة بين غرمائه . وهذا إن كانت الدّيون كلّها من النّقد . وكذلك إن كانت كلّها عروضاً موافقةً لمال المفلّس في الجنس والصّفة ، فلا حاجة للتّقويم ، بل يتحاصّون بنسبة عرض كلٍّ منهم إلى مجموع الدّيون .
 فإن كانت الدّيون كلّها أو بعضها عروضاً وكان مال المفلّس نقداً ، قوّمت العروض بقيمتها يوم القسمة ، وحاصّ كلّ غريمٍ بقيمة عروضه ، يشترى له بها من جنس عروضه وصفتها . ويجوز مع التّراضي أخذٌ الثّمن إن خلا من مانعٍ ، كما لو كان دينه ذهباً ، ونابه في القسم فضّةٌ ، فلا يجوز له أخذ ما نابه ، لأنّه يؤدّي إلى الصّرف المؤخّر . وهذا التّفصيل منصوص المالكيّة . ولو أنّ المفلّس أو الحاكم قضى ديون بعضهم دون بعضٍ ، أو قضى بعضاً منهم أكثر ممّا تقتضيه التّسوية المذكورة شاركوه فيما أخذ بالنّسبة .

بعض أحكامه
يحرم على المدين المستغرق بالدّين ، ديانةً كلّ تصرّفٍ يضرّ بالدّائنين ، كما يحرم على الآخرين أن يتعاملوا معه بما يضرّ بدائنيه متى علموا. و إذا أحاط الدّين بمال المدين ، وطلب الغرماء الحجر عليه ، وجب على الحاكم تفليسه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وصاحبي أبي حنيفة ، وهو المفتى به عند الحنفيّة . واشترط المالكيّة لوجوب ذلك ألاّ يمكن للغرماء الوصول إلى حقّهم إلاّ به . أمّا إذا أمكن الوصول إلى حقّهم بغير ذلك كبيع بعض ماله ، فإنّه لا يصار إلى التّفليس
يشترط للحجر على المفلس عند كلّ من أجازه أن يطلب الغرماء أو من ينوب عنهم أو يخلفهم الحجر عليه . فلو طالبوا بديونهم ولم يطلبوا الحجر لم يحجر عليه .
 ولا يشترط أن يطلبه جميع الغرماء ، بل لو طلبه واحدٌ منهم لزم ، وإن أبى بقيّة الغرماء ذلك أو سكتوا ، أو طلبوا تركه ليسعى . وإذا فلّس لطلب بعضهم كان للباقين المحاصّة .
 ولو طلب المدين تفليس نفسه والحجر عليه لم يجبه الحاكم إلى ذلك من غير طلب الغرماء . وهذا عند المالكيّة والحنابلة ، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة . والأصحّ عندهم يحجر على المدين بسؤاله أو سؤال وكيله ، قيل : وجوباً ، وقيل : جوازاً . قالوا : لأنّ له غرضاً ظاهراً في ذلك ، وهو صرف ماله إلى ديونه .
 ووجه الأوّل أنّ الحجر ينافي الحرّيّة والرّشد ، وإنّما حجر بطلب الغرماء للضّرورة ، وأنّهم لا يتمكّنون من تحصيل مقصودهم إلاّ بالحجر ، خشية الضّياع ، بخلاف المدين فإنّ غرضه الوفاء ، وهو متمكّنٌ منه ببيع أمواله وقسمتها على غرمائه . وجعل بعضهم من الحجر بطلب المدين« حجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على معاذٍ ». قالوا : الأصوب أنّه كان بسؤال معاذٍ نفسه .
 وقال الشّافعيّة : ولو كان الدّين لقاصرٍ ، ولم يسأل وليّه الحجر ، وجب على الحاكم الحجر من غير سؤالٍ ، لأنّه ناظرٌ لمصلحته . ومثله عندهم ما لو كانت الدّيون لمسجدٍ ، أو جهةٍ عامّةٍ كالفقراء . وقال الشّافعيّة أيضاً في حالة ما إذا طلب بعض الدّائنين الحجر دون بعضٍ : يشترط أن يكون دين الطّالب أكثر من مال المدين ، وإلاّ فلا حجر ، لأنّ دينه يمكن وفاؤه بكماله . وهذا هو المعتمد عندهم ، وفي قولٍ : يعتبر أن يزيد دين الجميع على ماله ، لا دين طالب الحجر فقط .
و يشترط أن يكون الدّين الّذي طلب ربّه الحجر على المدين بسببه ديناً حالاًّ ، سواءٌ أكان حالاًّ أصالةً ، أم حلّ بانتهاء أجله ، فلا حجر بالدّين المؤجّل ، لأنّه لا يطالب به في الحال ، ولو طولب به لم يلزمه الأداء .
و يشترط أن تكون الدّيون على المفلس أكثر من ماله . وعلى هذا فلا يفلّس بدينٍ مساوٍ لماله ، وهو قول المالكيّة ، ويفهم أيضاً من كلام الحنابلة ، وقال المالكيّة : ولو لم يزد دينه الحالّ على ماله لكن بقي من مال المدين مالاً يفي بالمؤجّل يفلّس أيضاً ، كمن عليه مائتان . مائةٌ حالّةٌ ومائةٌ مؤجّلةٌ ، ومعه مائةٌ وخمسون فقط ، فيفلّس ، إلاّ إن كان يرجى من تنميته للفضلة - وهي خمسون في مثالنا - وفاء المؤجّل .
 وقال الشّافعيّة : إن كانت ديونه بقدر ماله ، فإن كان كسوباً ينفق من كسبه فلا حجر لعدم الحاجة ، وإن لم يكن كسوباً ، وكانت نفقته من ماله ، فيحجر عليه كي لا يضيّع ماله في نفقته على قولٍ عندهم . والأصحّ عندهم : أنّه لا حجر في هذه الحال أيضاً ، لتمكّن الغرماء من المطالبة في الحال .
الدّين الّذي يحجر به هو دين الآدميّين . أمّا دين اللّه تعالى فلا يحجر به . نصّ على ذلك الشّافعيّة . قالوا : ولو فوريّاً ، كنذرٍ ، وإن كان مستحقّوه محصورين ، وكالزّكاة إذا حال الحول وحضر المستحقّون .
- يشترط أن يكون الدّين المحجور به لازماً ، فلا حجر بالثّمن في مدّة الخيار ، نصّ على ذلك الشّافعيّة .
الحجر على المدين الغائب :
ويصحّ الحجر على الغائب عند المالكيّة ، إن كانت غيبته متوسّطةً كعشرة أيّامٍ ، أو طويلةً كشهرٍ مثلاً ، أمّا الغائب الغيبة القريبة ففي حكم الحاضر .
 واشترطوا للحجر على الغائب ألاّ يتقدّم العلم بملاءته قبل سفره . فإن علم ملاءته قبل سفره استصحب ذلك ولم يفلّس .. وعند ابن رشدٍ يفلّس في الغيبة الطّويلة ، وإن علم ملاءته حال خروجه .
من يحجر على المفلس :
- لا يكون المفلس محجوراً عليه إلاّ بحجر القاضي عليه . والحجر للقاضي دون غيره ، لاحتياجه إلى نظرٍ واجتهادٍ . هذا وإنّ لقيام الغرماء على المدين الّذي أحاط الدّين بماله بعض أحكام التّفليس عند المالكيّة ، ويسمّى هذا عند المالكيّة تفليساً عامّاً ، وهو أن يقوم الغرماء على من أحاط الدّين بماله - وقبل أن يحجر عليه الحاكم - فيسجنوه ، أو يقوموا عليه فيستتر عنهم فلا يجدونه ، ويحولون بينه وبين التّصرّف في ماله بالبيع والشّراء والأخذ والإعطاء ، هذا بالإضافة إلى منع تبرّعه ، ومنعهم لسفره ، كما في كلّ مدينٍ بدينٍ حالٍّ أو يحلّ في الغيبة ، وليس لهم في هذه الحال منعه من تزوّجٍ واحدةٍ ، وتردّدوا في حجّ الفريضة ، والفتوى عندهم على أنّ لهم منعه منه . ونقل ابن رجبٍ الحنبليّ في قواعده أنّ ابن تيميّة كان لا يرى نفاذ تبرّع المدين بالدّين المستغرق بعد المطالبة .
 ونقل عن الإمام أحمد أنّ تصرّفه بالعين الّتي له حقّ الرّجوع فيها على المحجور عليه لا ينفذ إن طالبه بها صاحبها ، ولو قبل الحجر .
 وأمّا عند سائر الفقهاء فإنّ المفلس قبل الحجر عليه كغير المفلس ، وما يفعله من بيعٍ أو هبةٍ أو إقرارٍ أو قضاء بعض الغرماء دون بعضٍ فهو جائزٌ نافذٌ ، لأنّه رشيدٌ غير محجورٍ عليه ، فنفذ تصرّفه كغيره . وصيغة الحجر أن يقول الحاكم : منعتك من التّصرّف ، أو حجرت عليك للفلس . ويقتضي كلام الجمهور التّخيير بين الصّيغتين ، ونحوهما - كفلّستك - من كلّ ما يفيد معنى الحجر .
الإثبات :
لا حجر بالدّين إلاّ إن ثبت لدى القاضي بطريقٍ من طرق الإثبات الشّرعيّة.
آثار الحجر على المفلس :
إذا حجر القاضي على المفلس ، تعلّق بذلك من الآثار ما يلي :
أ - تتعلّق حقوق الغرماء بماله ، ويمنع من الإقرار على ذلك المال والتّصرّف فيه .
ب - انقطاع الطّلب عنه بدينٍ جديدٍ بعد الحكم بالإفلاس .
ج - حلول الدّين المؤجّل في ذمّة المدين .
د - استحقاق من وجد عين ماله عند المدين استرجاعه .
هـ-استحقاق بيع مال المفلّس وقسمه بين الغرماء .
 وفيما يلي تفصيل القول في هذه الآثار .
                          الأوّل : تعلّق حقّ الغرماء بالمال :
بالحجر يتعلّق حقّ الغرماء بالمال ، نظير تعلّق حقّ الرّاهن بالمال المرهون ، فلا ينفذ تصرّف المحجور عليه في ذلك المال بما يضرّهم ، ولا ينفذ إقراره عليه . والمال الّذي يتعلّق به حقّ الغرماء هو مال المدين الّذي يملكه حال الحجر اتّفاقاً عند من يقول بجواز تفليس المدين . وأمّا ما يحدث له بعد ذلك فلا يشمله الحجر عند صاحبي أبي حنيفة - رحمهم الله - والمالكيّة ، وعلى قولٍ عند الشّافعيّة - هو مقابل الأصحّ عندهم - قالوا : كما لا يتعدّى حجر الرّاهن على نفسه في العين المرهونة إلى غيرها .
. فعلى قول الحنفيّة والمالكيّة يتصرّف المحجور عليه لفلسٍ فيما تجدّد له بعد الحجر من المال ، سواءٌ كان عن أصلٍ ، كربح مالٍ تركه بيده بعض من فلّسه ، أو عن معاملةٍ جديدةٍ ، أو عن غير أصلٍ كميراثٍ وهبةٍ ووصيّةٍ .
 ولا يمنع من ذلك التّصرّف إلاّ بحجرٍ جديدٍ على ما صرّح به المالكيّة .
الإقرار :
وعند المالكيّة تفصيلٌ ، قالوا : يقبل إقراره على غرمائه إن أقرّ بالمجلس الّذي حجر عليه فيه ، أو قريباً منه ، إن كان دينه الّذي حجر عليه به ثبت بالإقرار ، أو علم تقدّم المعاملة بينهما . أمّا في غير ذلك إن ثبت بالبيّنة ، فلا يقبل إمراره عليه لغيرهم .
تصرّفات المفلّس في المال :
- تصرّفات المفلّس ثلاثة أنواعٍ :
 الأوّل : تصرّفاتٌ نافعةٌ للغرماء ، كقبوله الهبة والصّدقة ، فهذه لا يمنع منها .
 الثّاني : تصرّفاتٌ ضارّةٌ ، كهبته لماله ، ووقفه له ، وتصدّقه به ، والإبراء منه ، وسائر التّبرّعات ، فهذه يؤثّر فيها الحجر عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، . واستثنى الحنابلة أيضاً تصرّفه بالصّدقة اليسيرة
. الثّالث : تصرّفاتٌ دائرةٌ بين النّفع والضّرّ ، كالبيوع والإجارة . والأصل في هذا النّوع أنّه باطلٌ على قول بعض الفقهاء ، منهم الحنابلة والشّافعيّة في الأظهر ، وابن عبد السّلام من المالكيّة .
 ومذهب المالكيّة : أنّه يمنع من التّصرّف المذكور ، فإن أوقعه وقع موقوفاً على نظر الحاكم إن اختلف الغرماء ، وعلى نظرهم إن اتّفقوا ، ومذهب الحنفيّة على قول الصّاحبين أنّ للمفلّس أن يبيع ماله بثمنٍ مثله ، لأنّه لا يبطل حقّ الغرماء ، وإن باع بالغبن لا يصحّ منه ، سواءٌ أكان الغبن يسيراً أم فاحشاً ، ويخيّر المشتري بين إزالة الغبن وبين الفسخ .

                    التّصرّف في الذّمّة من المحجور عليه لفلسٍ :
- لو تصرّف المحجور عليه لفلسٍ تصرّفاً في ذمّته بشراءٍ أو بيعٍ أو كراءٍ صحّ ، نصّ على ذلك المالكيّة ، والشّافعيّة على الصّحيح عندهم ، والحنابلة ، وهو مقتضى مذهب الصّاحبين ، لأهليّته للتّصرّف ، والحجر يتعلّق بماله لا بذمّته ، ولأنّه لا ضرر فيه على الغرماء ، ويتبع به بعد فكّ الحجر عنه .
 إمضاء التّصرّفات السّابقة على الحجر أو إلغاؤها :
قال المالكيّة : ينتقل الخيار للحاكم أو للغرماء ، فلهم الرّدّ أو الإمضاء .
 حكم ما يلزم المفلّس من الحقوق في مدّة الحجر :
22 - ما لزم المفلّس من ديةٍ أو أرش جنايةٍ زاحم مستحقّها الغرماء ، وكذا كلّ حقٍّ لزمه بغير رضى الغريم واختياره ، كضمان إتلاف المال ، لانتفاء تقصيره . بخلاف التّصرّفات الّتي تقدّم ذكر المنع منها ، فإنّها تكون برضا الغريم واختياره . قال الشّافعيّة على الأصحّ عندهم : ولو أقرّ المفلّس بجنايةٍ قبل إقراره على الغرماء ، سواءٌ أسند المفلّس سبب الحقّ إلى ما قبل الحجر أو إلى ما بعده .
 وجعل من ذلك صاحب المغني أنّه لو أفلس ، وله دارٌ مستأجرةٌ فانهدمت ، بعدما قبض المفلّس الأجرة ، انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة ، وسقط من الأجرة بقدر ذلك . ثمّ إن وجد عين ما له أخذ بقدر ذلك ، وإن لم يجده شارك الغرماء بقدره .
الأثر الثّاني - انقطاع المطالبة عنه :
وذلك لقول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ } وقول النّبيّ لغرماء معاذٍ : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » وفي روايةٍ « ولا سبيل لكم عليه » فمن أقرضه شيئاً أو باعه شيئاً عالماً بحجره لم يملك مطالبته ببدله حتّى ينفكّ الحجر عنه ، لتعلّق حقّ الغرماء حالة الحجر بعين مال المفلّس ، ولأنّه هو المتلف لماله بمعاملة من لا شيء معه ، لكن إن وجد المقرض أو البائع أعيان ما لهما فلهما أخذها كما سبق ، إن لم يعلما بالحجر .
الأثر الثّالث - حلول الدّين المؤجّل :
- في حلول الدّيون الّتي على المفلّس بالحجر عليه قولان للفقهاء :
 الأوّل وهو قول المالكيّة المشهور عندهم ، وقولٌ للشّافعيّ هو خلاف الأظهر عند أصحابه ، وروايةً عن أحمد : أنّ الدّيون المؤجّلة الّتي على المفلّس تحلّ بتفليسه . قال المالكيّة : ما لم يكن المدين قد اشترط عدم حلولها بالتّفليس . واحتجّ أصحاب هذا القول : بأنّ التّفليس يتعلّق به الدّين بالمال ، فيسقط الأجل ، كالموت . قال المالكيّة : ولو طلب الدّائن بقاء دينه مؤجّلاً لم يجب لذلك .
 والثّاني ، وهو قول الحنفيّة ، والشّافعيّ وهو الأظهر عند أصحابه ، وروايةً عن أحمد هي الّتي اقتصر عليها في الإقناع : لا يحلّ الأجل بالتّفليس . قالوا : لأنّ الأجل حقٌّ للمفلّس ، فلا يسقط بفلسه ، كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ما له ، فلا يوجب حلول ما عليه ، كالجنون والإغماء ، وليس هو كالموت ، فإنّ الموت تخرب به الذّمّة ، بخلاف التّفليس . فعلى هذا القول : لا يشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة ، إلاّ إن حلّ المؤجّل قبل قسمة المال فيحاصّهم . أو قبل قسمة بعضه فيشاركهم الدّائن في ذلك البعض . قال الرّمليّ من الشّافعيّة ، وصاحب الإقناع من الحنابلة : وإذا بيعت أموال المفلّس لم يدّخر منها شيءٌ للمؤجّل . ولا يرجع ربّ الدّين المؤجّل على الغرماء إذا حلّ دينه بشيءٍ ، لأنّه لم يستحقّ مشاركتهم حال القسمة . وقال الحنفيّة : يرجع عليهم فيما قبضوا بالحصص . أمّا على القول الأوّل : فيشارك أصحاب الدّيون المؤجّلة أصحاب الدّيون الحالّة في مال المفلّس . أمّا ديون المفلّس على النّاس فلا تحلّ بفلسه إذا كانت مؤجّلةً ، لا يعلم في ذلك خلافٌ .
الأثر الرّابع : مدى استحقاق الغريم أخذ عين ماله إن وجدها :
إذا أوقع الحجر على المفلّس ، فوجد أحد أصحاب الدّيون عين ماله الّتي باعها للمفلّس وأقبضها له ، ففي أحقّيّته باسترجاعها قولان للعلماء :
القول الأوّل : أنّ بائعها أحقّ بها بشروطه ، وهو قول مالكٍ والشّافعيّ وأحمد والأوزاعيّ والعنبريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر ، وروي هذا القول عن بعض الصّحابة ، منهم عثمان وعليٌّ رضي الله عنهما ، وعن عروة بن الزّبير من التّابعين . واحتجّ أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع « من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقّ به من غيره » .
 واحتجّوا أيضاً بأنّ هذا عقدٌ يلحقه الفسخ بالإقالة ، فجاز فيه الفسخ لتعذّر العوض ، كالمسلم فيه إذا تعذّر ، وبأنّه لو شرط في العقد رهناً ، فعجز عن تسليمه ، استحقّ الفسخ ، وهو وثيقةٌ بالثّمن ، فالعجز عن تسليم الثّمن نفسه أولى .
26 - القول الثّاني : قول أبي حنيفة وأهل الكوفة وقول ابن سيرين وإبراهيم من التّابعين وابن شبرمة . وروي عن عليٍّ رضي الله عنه :" أنّه ليس أحقّ بها ، بل هو في ثمنها أسوة الغرماء ". واحتجّوا بأنّ هذا مقتضى الأصول اليقينيّة المقطوع بها ، قالوا : وخبر الواحد إذا خالف الأصول يردّ ،
 كما قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه :" لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لحديث امرأةٍ ".
 قالوا : ولما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : « أيّما رجلٍ مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء » . قالوا : وهذا الحديث أولى من غيره ، لموافقته الأصول العامّة ، ولأنّ الذّمّة باقيةٌ وحقّه فيها .
الرّجوع فيما قبضه المدين بغير الشّراء :
اختلف القائلون بالرّجوع فيما قبضه الغريم بغير الشّراء .
أ - فقد عمّم الشّافعيّة القول بأنّ له الرّجوع في عين ماله بالفسخ في سائر المعاوضات الماليّة المحضة كالقرض والسّلم ، بخلاف غيرها ، كالهبة ، والنّكاح والصّلح عن دم العمد والخلع .
 وصنيع الحنابلة يوحي بأنّ قولهم في ذلك كقول الشّافعيّة ، وإن لم نرهم صرّحوا بذلك ، لكنّ تمثيلهم لما يرجع فيه بعين القرض ورأس مال السّلم والعين المؤجّرة يدلّ على ذلك .
ب - وأجاز المالكيّة الرّجوع للوارث ، ومن ذهب له الثّمن ، أو تصدّق عليه به ، أو أحيل به . وأبوا الرّجوع فيما لا يمكن الرّجوع فيه كعصمةٍ ، فلو خالعت زوجها على مالٍ ، ثمّ فلّست قبل أداء البدل ، لم يكن لمخالعها الرّجوع بالعصمة لأنّها خرجت منه ، ويحاصّ الغرماء ببدل الخلع ، وكما لو فلّس الجاني بعد الصّلح عن القصاص لم يكن لأولياء القتيل الرّجوع إلى القصاص ، لتعذّر ذلك شرعاً بعد العفو ، بل يحاصّون الغرماء بعوض الصّلح .
مذهب الحنابلة : أنّ الرّجوع على التّراخي . قالوا : وهو كرجوع الأب في هبته لابنه .
                                   الرّجوع بعين الثّمن :
لو كان الغريم اشترى من المفلّس شيئاً في الذّمّة ، وأسلم الثّمن ، ولم يقبض السّلعة ، حتّى حجر على المفلّس ، فهل يرجع الغريم بما أسلمه من النّقود ؟ قال المالكيّة : نعم يرجع إن ثبت عينها ببيّنةٍ أو طبعٍ ، قياساً للثّمن على المثمّن .
 وقال أشهب من المالكيّة : لا يرجع ، لأنّ الأحاديث إنّما فيها « من وجد سلعته ... » و : « من وجد متاعه ... » والنّقدان لا يطلق عليهما ذلك عرفاً .
 ثمّ قد قال المالكيّة : ولو اشترى شراءً فاسداً ففسخه الحاكم وأفلس البائع ، فالمشتري أحقّ بالثّمن إن كان موجوداً لم يفت . ولم نعثر على نصٍّ في هذه المسألة لسائر المذاهب . استحقاق مشتري العين أخذها إن حجر على البائع للفلس قبل تقبيضها :
نصّ الحنابلة على أنّ الرّجل لو باع عيناً ، ثمّ أفلس قبل تقبيضها ، فالمشتري أحقّ بها من الغرماء ، لأنّها عين ملكه ، وذلك صادقٌ عندهم سواءٌ كانت السّلعة ممّا لا يحتاج لحقّ توفيةٍ ، كدارٍ وسيّارةٍ ، أو ما يحتاج إليه ، كالمكيل والموزون .
 ولم نجد تعرّضاً لهذه المسألة في المذاهب الأخرى .
 هل يحتاج الرّجوع إلى حكم حاكمٍ :
لا يفتقر الرّجوع في العين إلى حكم حاكمٍ ، على مذهب الحنابلة ، وعلى الأصحّ في مذهب الشّافعيّة . قالوا : لأنّه ثبت بالنّصّ . ولو حكم بمنع الفسخ حاكمٌ فعند الشّافعيّة : لا ينقض حكمه قالوا : لأنّ المسألة اجتهاديّةٌ ، والخلاف فيها قويٌّ ، إذ النّصّ كما يحتمل أنّه " أحقّ بعين متاعه " يحتمل أنّه " أحقّ بثمنه " وإن كان الأوّل أظهر .
 وعند الحنابلة : يجوز نقض حكمه ، نقل صاحب المغني عن نصّ أحمد : لو حكم حاكمٌ بأنّ صاحب المتاع أسوة الغرماء ، ثمّ رفع إلى رجلٍ يرى العمل بالحديث ، جاز له نقض حكمه . أي فما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى حكم حاكمٍ .
 ما يحصل به الرّجوع :
يحصل الرّجوع بالقول ، بأن يقول : فسخت البيع أو رفعته أو نقضته أو أبطلته أو رددت . نصّ على هذا الشّافعيّة والحنابلة ، قال الحنابلة : فلو قال ذلك صحّ رجوعه ولو لم يقبض العين . فلو رجع كذلك ثمّ تلفت العين تلفت من مال البائع ما لم يتبيّن أنّها تلفت قبل رجوعه ، أو كانت بحالةٍ لا يصحّ الرّجوع فيها لفقد شريطةٍ من شرائط الرّجوع المعتبرة ، أو لمانعٍ يمنع الرّجوع ، كما لو كان دقيقاً فاتّخذه خبزاً ، أو حديداً فاتّخذه سيفاً .
 أمّا الرّجوع بالفعل : فقد نصّ الشّافعيّة - في الأصحّ عندهم - والحنابلة على أنّ الرّجوع لا يحصل بالتّصرّف النّاقل للملكيّة كالبيع ، ولو نوى به الرّجوع . قال صاحب مطالب أولي النّهى : حتّى لو أخذ العين بنيّة الرّجوع لم يحصل الرّجوع . والقول الآخر : أنّه يحصل بذلك ، كالبيع في مدّة الخيار . ولم نجد للمالكيّة نصّاً في ذلك .
 ظهور عينٍ مستحقّةٍ في مال المفلّس :
44 - لو ظهر شيءٌ مستحقٌّ في مال المفلّس فهو لصاحبه .
 ولو أنّ المفلّس باعه قبل الحجر ثمّ استحقّ - والثّمن تالفٌ - فإنّ المشتري يشارك الغرماء كواحدٍ منهم ، وسواءٌ أكان تلف الثّمن قبل الحجر أو بعده ، لأنّ دينه من جملة الدّيون الثّابتة في ذمّة المفلّس قبل إفلاسه . وإن كان الثّمن غير تالفٍ ، فالمشتري أولى به على ما صرّح به الشّافعيّة ، ويفهم من كلام الحنابلة ، لأنّه عين ماله .
 الرّجوع في الأرض بعد البناء فيها أو غرسها :
45 - عند الشّافعيّة والحنابلة : إذا أفلس مشتري الأرض وحجر عليه ، وكان قد غرس فيها غراساً أو بنى بناءً ، لم يمنع ذلك من رجوع البائع فيها . والزّرع الّذي يجذّ مرّةً بعد أخرى وتبقى أصوله كالغراس في هذا .
 ثمّ إن تراضى الطّرفان - البائع من جهةٍ ، والغرماء مع المفلّس من الجهة الأخرى - على القلع ، أو أباه البائع وطلبوه هم فلهم ذلك ، لأنّه ملكٌ للمفلّس لا حقٌّ للبائع فيه ، ولا يمنع الإنسان من أخذ ملكه . ويلزم حينئذٍ تسوية الأرض من الحفر ، وأرش نقص الأرض بسبب القلع يجب ذلك في مال المفلّس ، لأنّه نقصٌ حصل لتخليص ملك المفلّس ، فكان عليه ، ويقدّم به الآخذ على حقوق الغرماء عند الشّافعيّة ، لأنّه لمصلحة تحصيل المال ، ويحاصّهم به عند الحنابلة . وإن أبى المفلّس والغرماء القلع ، لم يجبروا عليه ، لأنّه وضع بحقٍّ . وللآخذ حينئذٍ تملّك الغرس والبناء بقيمته قائماً ، لأنّه غرس أو بنى وهو صاحب حقٍّ ، وإن شاء فله القلع وإعطاؤه للغرماء مع أرش نقصه ، فإن أبى الآخذ تملّك الغرس والبناء ، وأبى أداء أرش النّقص ، فلا رجوع له على الأظهر عند الشّافعيّة والمقدّم عند الحنابلة ، لأنّ الرّجوع حينئذٍ ضررٌ على الغرماء ، ولا يزال الضّرر بالضّرر .
 والوجه الآخر عند الطّرفين : له الرّجوع ، وتكون الأرض على ملكه ، والغرس والبناء للمفلّس . ولم يتعرّض المالكيّة والحنفيّة لهذه المسألة فيما اطّلعنا عليه من كلامهم .
 إفلاس المستأجر :
46 - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إذا آجر عيناً له بأجرةٍ حالّةٍ ولم يقبضها حتّى حجر على المستأجر لفلسٍ ، فالمؤجّر مخيّرٌ ، إن شاء رجع في العين بالفسخ ، وإن شاء ترك ذلك للغرماء وحاصّ بجميع الأجرة .
 وإن اختار الفسخ ، وكان قد مضى شيءٌ من المدّة ، فقال المالكيّة والشّافعيّة : يشارك المؤجّر الغرماء بأجرة ما مضى ، ويفسخ في الباقي . وقال الحنابلة : في هذه الحال يسقط حقّه في الفسخ بناءً على قولهم : إنّ تلف بعض السّلعة يمنع الرّجوع .
 إفلاس المؤجّر :
47 - إن آجر داراً بعينها ثمّ أفلس المؤجّر ، فالإجارة ماضيةٌ ولا تنفسخ بفلسه للزومها ، وسواءٌ أقبض العين أم لم يقبضها . وإن طلب الغرماء بيع الدّار المعيّنة في الحال بيعت مؤجّرةً ، وإن اتّفقوا على تأخير بيعها حتّى تنقضي الإجارة جاز .
 أمّا إن استأجر داراً موصوفةً في الذّمّة ، ثمّ أفلس المؤجّر قبل القبض ، فالمستأجر أسوة الغرماء ، لعدم تعلّق حقّه بعينٍ . وقال المالكيّة والشّافعيّة : وإن أفلس ملتزم عملٍ في الذّمّة ، وقد سلّم للمستأجر عيناً ليستوفي منها ، قدّم بها كالمعيّنة في العقد . ثمّ قال الشّافعيّة : فإن لم يكن سلّم له عيناً ، وكانت الأجرة باقيةً في يد المؤجّر ، فللمستأجر الفسخ ويستردّ الأجرة . فإن كانت تالفةً ضرب مع الغرماء بأجرة المثل للمنفعة ، ولا تسلّم إليه حصّته منها بالمحاصّة ، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه ، إذ إجارة الذّمّة سلمٌ في المنافع ، فيحصل له بعض المنفعة الملتزمة إن تبعّضت بلا ضررٍ ، كحمل مائة رطلٍ مثلاً ، وإلاّ - كخياطة ثوبٍ - فسخ ، ويحاصّ بالأجرة المبذولة . ولم نجد للحنفيّة كلاماً في هذه المسائل .
الأثر الخامس من آثار الحجر على المفلّس : بيع الحاكم ماله :
48 - يبيع الحاكم مال المحجور عليه لفلسٍ ، عند غير أبي حنيفة ومن وافقه ، ليؤدّي ما عليه من الدّيون . وإنّما يبيعه إن كان من غير جنس الدّين . ويراعي الحاكم عند البيع ما فيه المصلحة للمفلّس . وذكر ابن قدامة الأمور التّالية ، وذكرها غيره أيضاً :
أ - يبيع بنقد البلد لأنّه أوفر ، فإن كان في البلد نقودٌ باع بغالبها ، فإن تساوت باع بجنس الدّين .
ب - يستحبّ إحضار المفلّس البيع ، قال : ليحصي ثمنه ويضبطه ليكون أطيب لقلبه ، ولأنّه أعرف بجيّد متاعه ورديئه ، فإذا حضر تكلّم عليه ، فتكثر الرّغبة فيه .
ت - يستحبّ إحضار الغرماء أيضاً ، لأنّه يباع لهم ، وربّما رغبوا في شراء شيءٍ منه ، فزادوا في ثمنه ، فيكون أصلح لهم وللمفلّس ، وأطيب لنفوسهم وأبعد من التّهمة ، وربّما وجد أحدهم عين ماله فيأخذها .
ث - يستحبّ بيع كلّ شيءٍ في سوقه ، لأنّه أحوط وأكثر لطلاّبه وعارفي قيمته .
ج-يترك للمفلّس من ماله شيءٌ ، ويأتي تفصيل الكلام فيه .
ح-  يلاحظ الحاكم نوعاً من التّرتيب تتحقّق به المصلحة ، فيما يقدّم بيعه وما يؤخّره ، فيقدّم الأيسر فالأيسر ، حسبما هو أنظر للمفلّس ، إذ قد يكتفي ببيع البعض ، فيبدأ ببيع الرّهن ،0 ويدفع إلى المرتهن قدر دينه ، ويردّ ما فضل من الثّمن على الغرماء ، وإن بقيت من دينه بقيّةٌ ضرب بها مع الغرماء .
 ثمّ يبيع ما يسرع إليه الفساد من الطّعام الرّطب وغيره ، لأنّ إبقاءه يتلفه . وقدّمه الشّافعيّة على بيع الرّهن . ثمّ يبيع الحيوان ، لأنّه معرّضٌ للتّلف ، ويحتاج إلى مئونةٍ في بقائه .
 ثمّ يبيع السّلع والأثاث ، لأنّه يخاف عليه الضّياع وتناله الأيدي .
 ثمّ يبيع العقار آخراً . قال المالكيّة : يستأني به الشّهر والشّهرين .
 ونصّ الشّافعيّة على أنّ هذا التّرتيب مستحبٌّ في غير الحيوان ، وما يسرع إليه الفساد ، وما يخاف عليه النّهب أو استيلاء نحو ظالمٍ عليه .
 وذكر المالكيّة الأمور الآتية أيضاً :
 خ - أنّه لا يبيع إلاّ بعد الإعذار في البيّنة للمفلّس فيما ثبت عنده من الدّين ، والإعذار لكلٍّ من القائمين ( الدّائنين المطالبين ) ، لأنّ لكلٍّ الطّعن في بيّنة صاحبه ، ويحلف كلاًّ من الدّائنين أنّه لم يقبض من دينه شيئاً ، ولا أحال به ، ولا أسقطه ، وأنّه باقٍ في ذمّته إلى الآن .
د - وأنّه يبيع بالخيار ثلاثاً لطلب الزّيادة في كلّ سلعةٍ ، إلاّ ما يفسده التّأخير .
ذ - وقال الشّافعيّة : لا يبيع بأقلّ من ثمن المثل ، وهو مذهب الحنابلة ، كما في مطالب أولي النّهى ، وبعض الشّافعيّة قال : يبيع بما تنتهي إليه الرّغبات ، قالوا جميعاً : فإن ظهر راغبٌ في السّلعة بأكثر ممّا بيعت به - وكان ذلك في مدّة خيارٍ ، ومنه خيار المجلس - وجب الفسخ ، والبيع للزّائد . وبعد مدّة الخيار لا يلزم الفسخ ، ولكن يستحبّ للمشتري الإقالة .
ر - وقالوا أيضاً : لا يبيع إلاّ بنقدٍ ، ولا يبيع بثمنٍ مؤجّلٍ ، ولا يسلّم المبيع حتّى يقبض الثّمن .
ما يترك للمفلّس من ماله :
- يترك للمفلّس من ماله ما يأتي :
أ -  الثّياب  : يترك للمفلّس بالاتّفاق دستٌ من ثيابه ، وقال المالكيّة : يباع ثوبا جمعته إن كثرت قيمتهما ، ويشتري له دونهما ، وهو بمعنى ما صرّح به الحنابلة والشّافعيّة من أنّ الثّياب إن كانت رفيعةً لا يلبس مثله مثلها تباع ، ويترك له أقلّ ما يكفيه من الثّياب .
 وقال المالكيّة والشّافعيّة : يترك لعياله كما يترك له من الملابس .
ب -  الكتب  : وتترك له الكتب الّتي يحتاج إليها في العلوم الشّرعيّة وآلتها ، إن كان عالماً لا يستغني عنها . عند الشّافعيّة ، وعلى قولٍ في مذهب المالكيّة . والمقدّم عند المالكيّة أنّها تباع أيضاً .
ت -  دار السّكنى : قال مالكٌ والشّافعيّ - في الأصحّ عنه - وشريحٌ : تباع دار المفلّس ويكترى له بدلها ، واختار هذا ابن المنذر ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لغرماء الّذي أصيب في ثمارٍ ابتاعها : « خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلاّ ذلك » . وقال أحمد وإسحاق ، وهو قولٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة . لا تباع داره الّتي لا غنًى له عن سكناها . فإن كانت الدّار نفيسة بيعت واشتري له ببعض ثمنها مسكنٌ يبيت فيه ، ويصرف الباقي إلى الغرماء .
ث -  آلات الصّانع  : قال الحنابلة وبعض المالكيّة : تترك للمفلّس آلة صنعته ، ثمّ قال المالكيّة من هؤلاء : إنّما تترك إن كانت قليلة القيمة ، كمطرقة الحدّاد : وقال بعضهم : تباع أيضاً . ونصّ الشّافعيّة أنّها تباع .
ج -  رأس مال التّجارة  : قال الحنابلة وابن سريجٍ من الشّافعيّة : يترك للمفلّس رأس مالٍ يتّجر فيه ، إذا لم يحسن الكسب إلاّ به . قال الرّمليّ : وأظنّه يريد الشّيء اليسير ، أمّا الكثير فلا . ولم نر نصّاً في ذلك للحنفيّة والمالكيّة .
ح -  القوت الضّروريّ  : عند المالكيّة والحنابلة : يترك للمفلّس أيضاً من ماله قدر ما يكفيه وعياله من القوت الضّروريّ الّذي تقوم به البنية ، لا ما يترفّه . قال المالكيّة : وتترك له ولزوجاته وأولاده ووالديه النّفقة الواجبة عليه ، بالقدر الّذي تقوم به البنية . وهذا إن كان ممّن لا يمكنه الكسب ، أمّا إن كان ذا صنعةٍ يكتسب منها ، أو يمكنه أن يؤجّر نفسه فلا يترك له شيءٌ . ثمّ قد قال المالكيّة : يترك ذلك له ولمن ذكر قدر ما يكفيهم إلى وقتٍ يظنّ بحسب الاجتهاد أنّه يحصل له فيه ما تتأتّى معه المعيشة .
 أمّا عند الشّافعيّة فلا يترك له من القوت شيءٌ ما عدا قوت يوم القسمة ، ولا نفقة عليه أيضاً لقريبٍ ، لأنّه معسرٌ بخلاف حاله قبل القسمة . وتسقط نفقة القريب لما بعد القسمة أيضاً عند الحنابلة .
الإنفاق على المفلّس وعلى عياله مدّة الحجر وقبل قسمة ماله على الغرماء :
50 - عند الحنفيّة على قول الصّاحبين ، والشّافعيّة والحنابلة ، وهو مقتضى مذهب المالكيّة كما تقدّم : يجب على الحاكم أن ينفق من مال المفلّس عليه - أي على المفلّس - بالمعروف ، وهو أدنى ما ينفق على مثله ، إلى أن يقسم ماله . وذلك لأنّ ملكه لم يزل عن ماله قبل القسمة . وكذلك ينفق على من تلزم المفلّس نفقته ، من زوجةٍ وقريبٍ ولو حدث بعد الحجر ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم « ابدأ بنفسك ثمّ بمن تعول »،
المبادرة بقسم مال المفلّس بين غرمائه :
51 - نصّ المالكيّة على أنّه لا ينبغي الاستيناء ( التّمهّل والتّأخير ) بقسم مال المفلّس ، وقال الشّافعيّة والحنابلة : يندب المبادرة بالقسم لبراءة ذمّة المدين ، ولئلاّ يطول زمن الحجر عليه ، ولئلاّ يتأخّر إيصال الحقّ لمستحقّه ، وتأخير قسمه مطلٌ وظلمٌ للغرماء . قال الشّافعيّة : ولا يفرّط في الاستعجال ، كي لا يطمع فيه بثمنٍ بخسٍ . وقال المالكيّة : إن كان يخشى أن يكون على المفلّس دينٌ لغير الغرماء الحاضرين فإنّ القاضي يستأني بالقسم باجتهادٍ .
 ونصّ الشّافعيّة على أنّه لا يلزم الحاكم أن ينتظر ليتمّ بيع الأموال كلّها ، بل يندب للحاكم عندهم أن يقسم بالتّدريج كلّ ما يقبضه . فإن طلب الغرماء ذلك وجب . فإن تعسّر ذلك لقلّة الحاصل يؤخّر القسمة حتّى يجتمع ما تسهل قسمته ، فيقسمه ، ولو طلبه الغرماء لم يلزمه .
                        هل يلزم قبل القسمة حصر الدّائنين ؟
52 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يكلّف القاضي غرماء المفلّس إثبات أنّه لا غريم غيرهم ، وذلك لاشتهار الحجر ، فلو كان ثمّة غريمٌ لظهر . وهذا بخلاف قسمة التّركة عند جميعهم ، فإنّ القاضي لا يقسم حتّى يكلّفهم بيّنةً تشهد بحصرهم .
ظهور غريمٍ بعد القسمة :
53 - لو قسم الحاكم مال المفلّس بين غرمائه ، فظهر غريمٌ بعد ذلك بدينٍ سابقٍ على الحجر ، شارك كلّ واحدٍ معهم بالحصّة ، ولم تنقض القسمة . فإن أتلف أحدهم ما أخذه رجع عليه كذلك ، على ما نصّ عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . ثمّ قال الشّافعيّة : فإن كان الآخذ معسراً جعل ما أخذه كالمعدوم ، وشارك من ظهر الآخرين .
 وقال المالكيّة : إن اقتسموا ، ولم يعلموا بالغريم الآخر ، يرجع على كلّ واحدٍ منهم بما ينوبه ، ولا يأخذ أحدٌ عن أحدٍ . وإن كانوا عالمين يرجع عليهم بحصّته ، ولكن يأخذ المليء عن المعدم ، والحاضر عن الغائب ، والحيّ عن الميّت ، أي في حدود ما قبضه كلٌّ منهم . وفي قولٍ عند الشّافعيّة : تنقض القسمة بكلّ حالٍ ، كما لو ظهر وارثٌ بعد قسمة التّركة .
ما يطالب به المفلّس بعد قسمة ماله :
لا تسقط ديون الفلس الّتي لم يف ماله بها ، بل تبقى في ذمّته .
  وأمّا المالكيّة فقد أطلقوا القول بأنّ المفلّس لا يلزم بالتّكسّب ولو كان قادراً عليه ، ولو كان قد شرط على نفسه ذلك في عقد الدّين . قالوا : لأنّ الدّين إنّما تعلّق بذمّته .
  ثمّ قال المالكيّة والحنابلة : لا يجبر المفلّس على قبول التّبرّعات ، من هبةٍ أو وصيّةٍ أو عطيّةٍ أو صدقةٍ ، لئلاّ يلزم بتحمّل منّةٍ لا يرضاها ، ولا على اقتراضٍ . وكذا لا يجبر على خلع زوجته وإن بذلت ، لأنّ عليه في ذلك ضرراً

ما ينفكّ به الحجر عن المفلّس :
عند المالكيّة ، وهو وجهٌ آخر عند الحنابلة ذكره صاحب المغني : فإنّ حجر المفلّس ينفكّ بمجرّد قسمة الموجود من ماله . قال المالكيّة : ويحلف أنّه لم يكتم شيئاً ، فينفكّ حينئذٍ ولو بلا حكم حاكمٍ . ثمّ قد قال المالكيّة والحنابلة : وإذا انفكّ الحجر عن المفلّس ، ثمّ ثبت أنّ عنده مالاً غير ما قسم ، أو اكتسب بعد فكّ الحجر مالاً ، يعاد الحجر عليه بطلب الغرماء ، وتصرّفه حينئذٍ قبل الحجر صحيحٌ . ولا يعاد الحجر عليه بعد انفكاكه ما لم يثبت أو يتجدّد له مالٌ
ما يلزم المفلّس من الدّيون بعد فكّ الحجر :
- إذا انفكّ الحجر عن المفلّس بقسم ماله أو بفكّ القاضي الحجر عنه على التّفصيل المتقدّم ، وبقي عليه شيءٌ من الدّين ، فلزمته ديونٌ أخرى بعد فكّ الحجر عنه ، وتجدّد له مالٌ ، فحجر عليه مرّةً أخرى بطلب الغرماء ، قال الحنابلة : يشارك أصحاب الحجر الأوّل ببقيّة ديونهم أصحاب الحجر الثّاني بجميع ديونهم ، لأنّهم تساووا في ثبوت حقوقهم في ذمّته ، فتساووا في الاستحقاق .
 أمّا المالكيّة فقد فصلوا ، فقالوا : يشارك الأوّلون الآخرين فيما تجدّد بسببٍ مستقلٍّ ، كإرثٍ وصلةٍ وأرش جنايةٍ ووصيّةٍ ونحو ذلك ، ولا يشاركونهم في أثمان ما أخذه من الآخرين ، وفيما تجدّد عن ذلك إلاّ أن يفضل عن ديونهم فضلةٌ .
 ومذهب الشّافعيّة أنّه لو فكّ الحجر عن المفلّس ، وحدث له مالٌ بعده فلا تعلّق لأحدٍ به ، فيتصرّف فيه كيف شاء ، فلو ظهر له مالٌ - كان قبل الفكّ - تبيّن بقاء الحجر فيه ، سواءٌ حدث له بعد الفكّ مالٌ وغرماء أو لا ، والمال الّذي ظهر أنّه كان قبل فكّ الحجر للغرماء الأوّلين ، ويشاركون من حدث بعدهم فيما حدث بعد الفكّ ، ولا يشارك غريمٌ حادثٌ من قبله في مالٍ حدث قبله أو معه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق